Elham Dawsari

View Original

ما سرّ حوض الأسماك في لوحات هنري ماتيس في طنجة؟

| Art Analysis

تحـلـيــــل فـنـّـي |


قراءة تحليلية للوحة “المقهى العربي” لهنري ماتيس وعلاقة حوض الأسماك بتحولاته الفكرية والفنية إثر اهتمامه بالفنون الإسلامية وإقامته في المغرب

المقهى العربي، طنجة، ١٩١٣م - هنري ماتيس

كتب ماتيس مرة أنه يحلم بـ "فن التوازن والنقاء والصفاء، فن خالٍ من أي موضوع مزعج أو محبط، فن يمكن أن يكون له تأثيرًا مهدئًا ومريحاً على العقل، شيء مثل كرسي بذراعين جيدة يشعرني بالاسترخاء بعد التعب"

المقهى العربي هي لوحة زيتية رسمها الفنان الفرنسي هنري ماتيس أثناء رحلته الثانية إلى المغرب وإقامته في طنجة في ١٩١٣/١٩١٢، وكانت إحدى أعماله في فترة أسلوبه المغربي

ومثل العديد من الفنانين الأوروبيين في ذلك الوقت، انجذب ماتيس نحو “سحر الشرق” من خلال صور الأسود والصحاري والسلاطين والمجوهرات والتوابل في المنشورات الموزعة في المدن الأوروبية، وعزم على زيارة طنجة بحثا عما يلهمه في مسيرته الفنية ويثري ثقافته

من مجموعتي الصور أدناه، نلاحظ أن إقامة ماتيس المؤقتة في هدوء الشمال الأفريقي ساعدته على استبدال زخم العناصر والتباين الحاد في الألوان والمنظور التي تميزت بها أعماله في فترة الأسلوب الوحشي (الفوفي) بهدوء وحساسية مرهفة ودقة مجازية في لوحاته. فنرى سيادة درجات اللون الأزرق على أسلوبه في تلك الفترة، والتركوازي بشكل خاص في لوحة “المقهى العربي” على أرضية المقهى الترابية فيُشيع شعور بالاسترخاء للمتلقي. وسرّب بقايا من أسلوبه الوحشي إلى اللوحة في التقويسات السوداء العريضة في الخلفية وتحديد خفيف باللون البرتقالي لحوض السمك ليضفي نوعا من الاتزان على الصورة وألوانها، أو في تباين اللون الأحمر الحاد لانعكاس أشعة الشمس في أرضية لوحة باب القصبة (الصورة أدناه)


أثناء وبعد زيارة المغرب

 قبل زيارة المغرب //  حقبة الأسلوب الوحشي أو الفوفي

يتوسط لوحة “الممقهى العربي” عدد من الرجال عديمي الملامح متشابهين في المظهر مجرّدين من الفروقات والسمات الظاهرية، وفي جو من التأمل البصري والسمعي والحسي المشتركة وحالة من الخِفّة الفيزيائية في أجسادهم واللانهائية الزمنية يوحيهمها انعدام الظل في الصورة. وكأن الرجال يتّكِئون دون أمدِ.. لا يعكّر الزمن سكونهم.. وكأن الوقت لا يمرّ بهم في هذا المقهى.. وتواجدهم النفسي والروحي إنما هو خارج الزمان. (باستثناء ظل أحدهم، ربما لأنه يهمّ بالوقوف والخروج من تأمله، فيلحظه الزمن، ويلقي ظلّه عليه ليعود في دوامة من الحركة والتواجد الفيزيائي. أو ربما يكون الظل الوحيد في لوحة ماتيس هو مجرد فكرة مبدئية لم يكملها ولم يشطبها ويرسم فوقها كما فعل في أجزاء من هذه اللوحة إذا أمعنّا النظر في الجزء السفلي منها)

هؤلاء الرجال يتمددون في المقهى المغربي الذي كان يتردد عليه ماتيس أثناء زيارته للقصبة في مدينة طنجة. في المقدمة يستلقي أحدهم بجانب رجل آخر يتأملون حوض زجاجي صغير من الأسماك الحمراء أمامهم وما يشبه ثمرة فاكهة ما. أما في الخلفية، نرى مجموعة أخرى يتوسطهم رجل يعزف آلة موسيقية


حوض الأسماك في أعمال هنري ماتيس التالية للوحة المقهى العربي 

أصبحت الأسماك في حوض الماء من أهم مواضيع ماتيس في أعماله وأقربها إليه إلى جانب رسم المجسمات (فكرر رسمها فيما يزيد عن عشرة من أعماله). وذكر ماتيس كيف كانوا أهالي المغرب يقضون أيامهم ينظرون إلى أحواض من الأسماك الصغيرة في حالة تأمل صافية. وباتت الأسماك في لوحاته - بالإضافة إلى الثمرة والآلة الموسيقية هنا - تمثل حالة من الهدوء المثري والتأمل المثمر التي كان يبحث عنها الفنان الفرنسي بعيداً عن زخم حياته اليومية في باريس عندما عزم على زيارة المغرب. كما اعتمدها صورةً مجازية ترمز إلى فكرة الفردوس المفقود التي كثيرا ما شاعت في لوحات الرسامين الأوروبيين لا سيما الذين تأثر بهم ماتيس. بالإضافة إلى تأثر الفنان بالفنون الإسلامية التي حضرها بشكل متكرر في ميونخ عام ١٩١٠ في معرض “روائع من الفن المحمدي”، والتي بدورها ألهمته لزيارة الجنوب الإسباني أو الأندلس حينها، وخصوصا قصر الحمراء في غرناطة وجامع قرطبة في قرطبة.. وبالتالي دراسته لعناصر وهندسة المسطحات المائية والخضرة والحياة النباتية والحيوانية في مفهوم الجنة لدى المسلمين وفي حدائقهم وبساتينهم، واستلهم من الفنون الإسلامية أسلوب التبسيط والتسطيح في الرسم، وملأ المساحات الفارغة (التي كانت تؤرق هاجسه) بخبرة المسلمين الإبداعية الاحترافية في فهمهم ودراستهم للألوان، وهندسة التراكم الزخرفي وغيرهم من أسس وسمات الفنون التي أنتجها المسلمين


وتجدر الإشارة إلى زيارة الفنان للجزائر في ١٩٠٦ بهدف إضفاء بعد جديد لرؤيته الفنية في فترة سابقة لعزمه على زيارة المغرب، لكن دون جدوى حيث لم يجد في مدينة الجزائر ما يختلف عن زخم مدينة باريس، فكانت أشبه بباريس مصغرة، ولم يجد من زيارة جبال باتنة وبسكرة في الجزائر إلا حدة الألوان التي يعرفها من ممارسته الأوروبية في الفن بسبب قوة سطوع شمسها التي “كادت أن تسبب العمى” على حد قول ماتيس

كما أن للوحة المقهى العربي أهمية خاصة في مسيرة ماتيس الفنية، حيث يُذكر أنها قد تكون بذرة أسلوب “الديكوباج” الذي سلكه الفنان بشكل مكثف في نهاية الأربيعنيات والخمسينيات. والذي اعتمد فيه على قص الأوراق الملونة وتنظيمها في شكل لوحة. بدأها في الثلاثينيات كآلية تصورية قبل الشروع في الرسم على اللوحة بهدف التخطيط لعناصرها وألوانها، وبسبب ميله الشخصي للتبسيط في الرسم تدريجيا خلال خمسة عقود، وفي النهاية بسبب حالته الصحية التي اقعدته وأحالته عن الرسم في العقد الأخير من عمره ووجد في أسلوب الديكوباج منفساً مستمرا للتعبير خارج عجزه الجسدي


فترة (الديكوباج) أو قص الأوراق الملونة وتنسيقها

ولعل ذلك تأكيداً على ما تنبأ به معلمه الأول قوستاف مورو حين قال أن ماتيس سيجد طريقة يبسط فيها الرسم

استقى هنري ماتيس من فنون وثقافات متعددة إلى جانب الثقافة الإسلامية، مثل الفن الأفريقي والفن الصيني خلال حياته ومسيرته الفنية والتي كان لجميعها أثر على أسلوبه

لكن هل كان سيصل إلى تبسيطه في الرسم ودراسته الممتعمقة للألوان لولا تجربة زيارته لمدينة طنجة وفلسفة أحواض الأسماك في المقاهي المغربية وبرودة شمسها؟

قد تكون نزعة ماتيس التجريدية الفنية هي امتداد لملكة التأمل.. مثلما أن التأمل هو امتداد لعملية التجرد الحسي من اللحظة الفيزيائية بما تحمله من مشتتات


مراجع

https://smarthistory.org/matisse-goldfish/

https://www.dailyartmagazine.com/matisse-obsessed-with-goldfish/

https://www.dailyartmagazine.com/travel-morocco-matisse/

https://www.independentarabia.com/node/268491/…

https://www.khanacademy.org/humanities/ap-art-history/later-europe-and-americas/modernity-ap/a/matisse-goldfish

https://www.artistsnetwork.com/magazine/objects-inspire-henri-matisse-art/


تصفّح المدونة

:وتعرف على الصبابات واقتنِ نسخة من صورهن

See this gallery in the original post