المشهد الفني في السعودية
*نظرة تحليلية لواقع تجربة الفنان في سوق فني ناشئ
كان يصعب علي الإدراك أو الاعتراف أن المشهد الفني الذي يضم الفنانين وأنا ومن بينهم، هو عمل تجاري في المقام الأول، وأنه يضمهم للحاجة إليهم في منظومة العمل التجاري بالشكل الأكبر ومن ثم من أجل احتوائهم ودعمهم
مع الأخذ بالاعتبار أن الدعم والاحتواء هنا مفاهيم، ولو اعتبرناهم معايير فليس لهم حد أدنى واضح في السوق بشكل عام
وغالباً كنت أنكر حقيقة أن مشهد الفن السعودي ومجال الفن عالمياً بشكل عام تجارة بحتة، مقابل الاعتقاد الانهزامي بأنه قائمٌ على الحظ. لأني كنت أعي أن ذلك يعني ملازمتي جهد عملي وإعياء نفسي كبيرين لأكون فنانة في السوق مع المحافظة على شغفي بصدقٍ قد أُرهقَ وأُزهق بمكنات المنظومة، وما كنت أحتمل فكرة حمل ذلك العبء على نفسي، فألقيت اللوم على المشهد وتركيبته
وتوجهت لمجالات أخرى تطلب بعضها مني جهد عملي وإعياء نفسي كبيرين، لكني كنت أقبض مرتب شهري ومزايا صحية وتأمين اجتماعي، وفي إطار قانوني واضح للعمل والعمال. استمريت أكثر من عشر سنوات. لكن مارست أثناءها الفن لنفسي وعلى وقتي الخاص بعيداً عن مجال لم استطع دخوله ولا فهمه ولا الارتياح له، بحثا عن صوتي ورغما عني
وحين راجعت نفسي بعد سنوات طويلة كنت قد تمرست فيها في مجالات أخرى زادت وعيي في كيفية عمل المنظومات التجارية وما تحمله من علاقات، منها المجالات المالية والتسويق، أدركت وفهمت حقيقة أن هيكلة المشهد الفني ليس استثناء
لم يكن التصالح مع الإدراك سهلا. لكن لم يعد موضوع شخصي. تجردت من ارتباطي بالمشهد كفنانة فقط، فلا بد أن أنظر لنفسي باعتباري تاجرة أو صاحبة عمل أيضا. وتشربت وعملت بموجب حقيقة أنني كفنانة (فقط) دوماً سأكون في مرتبة ثانية في أولويات عمل المنظومة، إلى أن أثبت نفسي على مستوى كبير وغالباً دولي بالاعتماد على نفسي بشكل مرهق يمتد على سنواتٍ عجاف، وممكن ببعض الدعم أحيانا بحسب الظروف من معرض يرعاني أو جهة داعمة. مما يتطلب مني أن أخدّر الفنانة أحياناً ومؤقتاً وأن أشمّر عن ساعدي سيدة الأعمال، وأخطط استراتيجياً كما لو كنت مقبلة، إن جازت الرمزية، على حربٍ باردة وسط نظام رأسمالي، وأن أنظر لنفسي كعمل تجاري. فأنا استثمار مالي للجهة الراعية أو المكلِّفة، بغض النظر عن مستوى استثمارها الفني في الفنان، وأنا أيضاً خط الانتاج والمنتَج، وهذا هو الأساس الذي تبني عليه الجهات الراعية والممثلة للفنانين تجارتها
هذه هي تركيبة المجال عالمياً. وفي حين أنه يصعب أحياناً التصديق بهذه الحقيقة، إلا أن تركيبة المجال لا تعنيني بشكل شخصي
لأنه أولاً خارج قدرتي الشخصية على تغييره وثانياً لأنه عمل تجاري. والعمل التجاري بشكل عام حنكة وصبر والكثير من الدبلوماسية. ولأن الفنان لم يُعدّ أو يُجهزّ ليكون تاجراً، فإن بعض الخصال سابقة الذكر هي جهود تحتل مرتبة متدنية في قوائم اهتمامات الفنان من الناحية الاجتماعية في المشهد، لأنها تضطره إلى استنزاف طاقاته في الحقيقة من أجل الولوج من محميته إلى طرق كثيرة التحويلات وسط ظاهرة يرى فيها السراب والضباب معاً، وإن تمكن من اجتياز العقبات تمتطيه دوامة ترابية يعود بآثارها لمحميته
وبافتراض أن العمل التجاري في أي مجال آخر بشكل عام تأتي فيه المصلحة المادية أولا وبعدها يبنى حولها علاقة وحقوق والتزامات الطرفين أو الأطراف، فإن المشكلة في منظومة المشهد الفني غير المتكافئ في قوى العلاقة بين الأطراف، هي أن الفنان الناشئ في أحسن الأحوال ليس طرفاً حقيقياً ذو حقوق مكفولة نظاميا وقانونيا في نظام العمل
وفي أحسن الأحوال، يبدو وكأنه هو برنامج المسؤولية المجتمعية الثانوي في أولويات الجهة الراعية أو الممثلة، فلا يملك حقوق نظامية لأنه غير مسنود في نظام العمل أساساً كبقية الموظفين في نظام العمل ولا يعتبر موظف رغم انتاجيته المستمرة لأكثر من ٩ ساعات يومياً
مما يجعل الفنان في الحقيقة طرف صفقة تجارية قوى العلاقة فيها تميل دائما وبالشكل الأكبر لمصلحة المؤسسة التجارية الداعمة للفنان وذلك بسبب توفر رأس المال والعلاقات الفنية لدى المؤسسة وحاجة الفنان لهما، وبالتالي نظرة المؤسسة للفنان كإستثمار مالي لها لكن طويل الأجل لتقليل المخاطرة المالية قدر الإمكان
(وإن حالف الفنان الحظ، كإستثمار فني أيضا)
لكن في علاقة القوة غير المتكافئة هذه، هناك مصلحة استثمارية طويلة المدى لصالح الفنان (قد تتجاوز عمر الفنان في كثير من الأحيان فلا يجني ثمارها) ينمّي فيها قيمته الدفترية كفنان للمدى البعيد والبعيد جدا، مهما كان موقعه من مسيرته الفنية، وبالأخص إذا كان "ناشئاً" (بمعنى جديداً في المشهد الفني أو بالمعنى المطاطي لهذه التسمية التي باتت سلبية محليا وعالميا فيكون معروفا ومنتجا وعارضا لأعماله، وأحياناً على مستوى عالمي، لكن لا تزال فرصه المحلية محصورة في دائرة فرص الناشئين) فيطول مخاضه، واستثماره لقيمته وسط رمال متحركة يصارع فيها الوقت، ليستمر في تصيّد الفرص والتوسع في انتاج وعرض أعماله، بالانتفاع من موارد المؤسسة من مادة وعلاقات وخبرة ضمن هذه الصفقة التجارية ما دامت مستمرة ولآخر رمق رغم استنزافه جهدا وكرامةً
والفنان أيضا طرف صفقة تجارية لم تبنى حولها قواعد تشريعية خاصة بالمشهد الفني تقنن وتحمي الحقوق والالتزامات بين الفنان والجهة الممثلة والممولة والداعمة للفنان، وتنقله من تصنيف مشهد فني إلى مجال فني. إنما جرت العادة أن تحدد شروط صفقة العمل بينهما حسب تقدير كل جهة داعمة أو راعية للفنان على حدة. والذي يعود للعرف (إن جاز تسميته عرفاً في سوق الفن المحلي الذي لا يزال ناشئا في تاريخه وممارساته)، وتوجه الجهة الفنية، وربما النزعة المؤسساتية التقديرية للعمل الفني، والظروف المكانية والزمانية، ومفاوضات بين الطرفين أحياناً، وهوس ماهية رغبة أصحاب رؤوس الأموال، واهتمام المستثمر، وعلى حسب رأس مال الجهة الداعمة وعلاقاتها مع مقتني الفن والمستثمرين، وإلى دور الإعلام في تشكيل المشهد ومن ثم المجال في الوعي المجتمعي الثقافي وبالتالي في الوعي والممارسة المؤسساتية
مع الأخذ بالاعتبار أن هذه العوامل التي تسيّر رحلة الفنان، ولا تمنحه مساحة يتخيّر فيها الفرص (إلا بعد سنوات كثيرة من نجاحه أولاً في البقاء على قيد الحياة سليم العقل والصحة النفسية ومن ثم في بناء العلاقات الصحيحة استراتيجيا في مشهد ركيك البنية التحتية ومتحيز للربح المادي والشراكات الدولية)، هي ضمن هذا السوق الذي لم يكتمل نموه وتبلوره بشكل محلي فريد يخدم في الأساس المجتمع المحلي الذي تشكَّل منه أولا ثم منظومات الفن الخارجية التي قد تبديها المؤسسة الداعمة المحلية أولوية فوق الفنان وربما فوق أولويات الرؤية الخاصة بها، لما تملكه المنظومات والجهات الفنية الخارجية من موارد وعلاقات وخبرة تتفوق على الجهات المحلية وتخدمها في نموها تجارياً وفنياً، ولا شك أنه يعود ويخدم الفنان في الأخير. وليس بغريب بقاء بعض المؤسسات على تمويل أو شراكات دولية، وتأثير ذلك على تركيبة وثقافة الفن محلياً على الفنان والوعي المجتمعي الثقافي والفني
والفنان طرف في صفقة تجارية يجب أن يعلم أنه هو الطرف الخاسر فيها دائماً حتى يتعلم كيف يدير نفسه كعمل تجاري؛ كيف يخرج من فقاعته وصدمته وينتشل نفسه من عمله ويحتك بالفنانين وأهل المشهد الفني، وكيف يغتنم الفرص باختلاطه في المساحات المشتركة للفنانين الواقعية أو الافتراضية، وكيف يحدد موقفه كفنان وموقعه من خارطة الفن المحلية النامية، والمتخبطة أحيانا مثل الكثير منا وكأي جهد في فجر نموه، والمتفجرة اليوم بالفرص الاستثمارية والتسويقية والاجتماعية والفردية للفنان، وكيف ينقّب عن ويتواصل مع جهة داعمة، وكيف يجيد التسويق لأعماله ولشخصه دون أن يستنزف نفسه وروحه، وكيف يخاطب مختلف أفراد ومؤسسات المجتمع من خلال الصحافة والإعلام التقليدي والجديد
وكيف بعد وأثناء ذلك كله، يجد في نفسه الطاقة والشغف لأن يمارس فَنّهُ ويستمر يعبر بالطريقة الغريزية التي جُبِلَ عليها ويبقى أصيلا لنفسه ومعرفته وثقافته الجمعية التي لا يتهاون عن الضرب في الأرض أو فضاء الانترنت لحرثها وحصدها